جزء من قصة " وابل من حنين"

 

جزء من قصة " وابل من حنين"

من مجموعتي القصصية " أرض وراية"

وابل من حنين   

  يافعا ينساب خلفكَ بين الخطرات رويدا رويدا، يتابعكَ بكلّ اطمئنان،  ولا يحدث صوتا و لا نبرات. كانت خطواتكما ثابتة، لكنّها صامتة، فقد امتصّ عشب الأرض جميع موجات الصّوت في لقاء حميميّ بعد طول غياب.

و كالحلم ظلّ يتهدّل وضيئا بين يديك و يختزل حنينا لبستَه منذ اللحظة البعيدة، و بصم بعض تعبه على أسفل عينيك، و كان يسألك عنها فلا تجيب، فصار يلبس صمته و يطمئنّ للكلمات.

  • احتمِ بظهري، انزل، انبطح، اسند ظهرك للصّخر.

كم رحيم هو الصّخر، من قال بأنّه ليس للصّخر قلب؟ صخرنا كريم، وجدار بيتنا المتهرئ يفوح منه عطر الأصالة.

نزلت منكَ عبرتان، حاولتَ أن تخفيهما، أنتَ لا تريد لابنكَ أن يراهما. هو يتجلّد بكَ، يرى فيكَ العزيمة، يرضع من هوائكَ الشّجاعة والمصابرة، فتلك كلماتكَ له:

  • تحلَّ بالمصابرة بنيّ، فبعض اليوم لهم و الغد كلّه لنا.

و صدرت منكما الألحان العذبة و الصّوت الحنون، و أنتما تردّدان أنشودة الشّمس و الوطن، في تلك البراري الشّاسعات، و بين الجبال الشّامخات، و كان يرجّع صداها صخورنا الرحيمات، و تتناقل ألحانها النسمات، هي أنشودة تبشّر بالفجر في الغد، لأنّه دوما بعد اللّيل يأتي الضّياء:


-1-

غدا ستشرق الشّمس 

ويحتفي....

كلّ من عانى الشّجن

ويرتمي في دفئها

صقيعنا 

و إن طالت أيامه   

فقد دُفن

غدا ستشرق شمسنا

برّاقة بوجهها

 الحسن

وتشهر إشراقة

برّاقة

لتصعق باب المحن

وتقتفي آثارها

ماحية أنينها

عن الوطن

تدفعها بأمل

إلى فناء عاجل

تلحدها دون كفن


-2-

ليعتلي بعزّة

صهوة مجده

هذا الوطن

ليحتفي بنصره

في دحره كل الظّلال

بضربة صارمة 

من  شمسه 

الوفيّة دائما

شمس الوطن

و خفتَ صوته بعد آخر حرف من أنشودة الوطن، ثم تلاشى بين ذرات الهواء، فألقيتَ نحوه نظرات شفقة و لم تتكلّم، فهو عندما يصمت لا يحب أن يتكلّم أحد في حضرته، لكنّك اكتفيت بإشاعة ابتسامة مطمئنة لقلبه الموخوز بالحنين وبالأنين.

كنتَ تعلم أنّ قلبه مقسوم بين مكانين، أحدهما للجزائر والآخر لهما. كانا يعيشان معه، و يقطعان معه كلّ المسافات، يخطوان خطوات مثابرة بين الوديان و الوهاد، ويتقلّصان خلفه كالظّل عند غياب الشّمس، و يتمدّدان في الأفق بين عينيه عند شروقها.

لم يفارقاه لحظة واحدة و كنتَ تقرأ ذلك في عينيه، و تسمع تنهيداته المهمومة من نَفَسِهِ المتقطّع و إن كان يجدّ في إخفائه عنكَ، فهو لا يحب أن تتلقّى منه مشاعر ضعف، و قد كان معلّمك الأصيل في مدرسة الحياة.

في ذلك اللّيل البهيم، أيقظتكَ أمّك و هيّأت أختكَ لكَ ثيابكَ، لم تفهم شيئا، لكنّها أخبرتكَ:

ـــــ ستتحرّكان حالا. اعتن بنفسك.

كتمت مشاعرها، ثم أضافت بصوت ثابت لا ارتعاشة فيه:

ــــ لقد اختاركَ لمرافقته ككلّ مرّة.

ــــــ و أنتما؟

ـــــ يجب أن نبقى، قد يشكون بأمرنا لو تركنا البيت فارغا.

لقد خطّط أن يلحقا بنا بعد شهر أو شهرين، لكنّ الموازين انقلبت فجأة، فلم يلحقا بنا، و لم يصلنا عنهما أيّ خبر.

أرسل أبي بعض الرّجال كي يتقصّوا عن أحوالهما لكنّهم لم ينجحوا، لقد اختفت الفتاة و أمّها و لا أحد يعرف لهما طريقا.

ـــــ ربما اختطفوهما يا أبي، انتقاما منّا.

و صرخ بوجهي دون أن يشعر، و كانت تلك أوّل مرّة:

ـــــ لا يمكنهم أن يفعلوا، أنا ما تركت خلفي نساء يخطفن و يُهَنّ،  ولكنّهما لبؤتين تعرفان الحلّ الأمثل لأصعب المعضلات. ما كانتا لتسلّما أعناقهما لصيّادي الفرح و الأمان. أمّك تعرف جيدا ما تفعله في مثل تلك الظّروف.

و ارتعشت الكلمات في فمي و أنا أسأله:

ـــ أيمكن أن تكون قتلتها ثم قتلت نفسها؟

و تمتم بصوت خافت، لكنّني فهمته و قد استدار كي لا يواجهني بملامحه المتكسرة:

ــــ أليس ذلك أفضل من العار؟

ما أردت أن أصدّق كلامه، اعتبرت نفسي أنّي أحيا كابوسا سأصحو منه بعد قليل، و لكنّه لم يكن كابوسا، و لكنّني لم أصح منه و لم يصح منه هو أيضا،  فحاول مرارا أن يكتم أنفاسه المتقطّعة عنّي عندما كنت أذكرهما، لكنّ عبراته خانته هذه المرّة فسالت منه كالأنهار.

ـــــ هل أنت تبكي يا أبي؟

ــــ لا يا بنيّ، هذه ليست دموعا، و لكنّها أمطار اشتياق.

و شملتني أمطاره، حتى غرقنا في بحر الحنين، و لم تكن هناك من سفينة وجد نبحر بها نحو مرفأ الإشراق.

أنتَ اليوم بصحبته، كما كنت بالأمس البعيد، ترافقه دوما و إلى كل مكان.

لم تكن تحسن العدّ حينها، لكنّها كانت لعبة ممتعة جدا بالنّسبة إليك، فكنت تعيدها و تعيدها و لا تملّ، كنتَ تعدّ كلّ الأشجار التي تمرّان بها في طريقكما إلى السّوق، و كنتَ تعدّد ألوان الورود في الحديقة العامّة، و حتى السّحاب كنتَ تقوم بعدّه و أنتَ تتساءل لِمَ يهبط على الجبل أحيانا و أحيانا أخرى كان يبقى معلّقا في السماء.

و بكيتَ ذات مرّة بحرقة شديدة، عندما رفض والدك أن يأخذك لرؤية سحاب شاهدته ساقطا على أحد الجبال، و حدّثك أبوك يومها عن عظمة الجبال و أنّها صديقة للكرام و ستثأر لأصحاب الأرض المغصوبة.

ـــــ لا تحاول أن تقنعني، أريد رؤية السّحاب الذي سقط الآن فوق ذلك الجبل.

ـــــ السّحاب في مكانه يا بنيّ، و لو ذهبنا إلى هناك فلن نجد شيئا.

و لم تقتنع و كان فيك عناد ظلّ متأصّلا فيك إلى اليوم، إلى أن جاء يومكَ الذي رافقتَ فيه والدكَ كبيرا، ووصلتَ إلى قمّة الجبل المقصود، لكنّك وجدت أنّ السّحاب بقي دوما بعيدا، معلّقا في عزّة على جو السّماء.

ــــــ هكذا هم أصحاب الهدف السّامي يا بنيّ، لا ينزلون إلى الوحل حتى ولو بدا بلون العسل، بل يبقون متشبّثين بالأعالي فلا ينزلون إلا و معهم مشاعل النّور.


و كنتَ تفهم جيدا ما قصده الرّجل الشّهم بالوحل و العسل، و لم يكن تشبيها بليغا لكنّه أصاب المقصود. 

لقد رقّوه في مناصبهم، ليسترقوا ولاءه، لكنّه تنصّل من ذلك كلّه لأنّه من سلالة الأسود.

كنتَ تسمعه يقول لها:

ــــ لا يمكنهم أن يشتروا ذمّتي ببعض الدريهمات.

ــــ يمكنكَ أن توافق و أن يكون ولاؤكَ لوطنك.

ثم يرتفع صوته فجأة:

ــــ لا أستطيع، أنت تعرفين طبعي، لا يمكنني إخفاء ما في صدري. فإما أن أكون معهم أو عليهم.

و تأثّرت بارتفاع صوته في وجهها، وكانت تلك أول مرة يرفع فيها صوته عليها، فخبّأتْ وجهها بيديها، و أشاح عنها بوجهه يتظاهر باللّامبالاة و كان قلبه يتقطّع ندما، لكنّه كان دائما يفضّل أن لا يظهر ضعفه لأحد، فيتظاهر بلامبلاة مزمنة في كلّ المواقف.

و تلك تشبه لامبالاتكَ بتعبه حين كنتَ صبيّا، عندما كان يصطحبكَ على ظهره، و كانت هي رَكبتكَ المفضّلة التي كنتَ تفرضها على الجميع لأنّك آخر العنقود.

وجميعهم كان يحبّكَ، أب رحيم يحملكَ بالأمس على ظهره، يطوف بكَ في جنبات المدينة، تراها جميلة، و مدينتكَ حقا جميلة، لكنّها صارت وكأنّها تنكر أهلها الطيبين. فقد باتت تتكلَم لغتهم وتتزيَا بزيّهم، ومؤهّلة فقط لخدمتهم. 

كنتَ ترى أطفالهم، وتنظر إليهم بعين الإعجاب، فقد كانوا يلبسون ثيابا جميلة وغير مرقّعة، ويحتذون بأحذية رائعة.

جميلة ميهوبي.



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-