جزء من قصة " قبر يفضي إلى حياة"

 




جزء من قصة " قبر يفضي إلى حياة"

من مجموعتي القصصية " أرض وراية"

 

قبر يفضي إلى حياة

تحت تلك الشّجرة، كنت أسامر حبيبتي بكثير من ترانيمنا العذبة، اقتسمناها معا منذ عزف الصّوت الباكي لحن الحياة. حبيبتي تلك، كان بيني وبينها انسجام خرافيّ، تنهال بين أيدينا أغاريد و زغاريد، و كان انسجامنا يوحي بشيء من الغرابة، ولا ندري ما تعريف الغرابة عندهم، إذ كان يختلف معناها ومعاييرها لدينا.

كانوا يردّدون كلمة " غريبان"، وكنت أنا وحبيبتي نستغرب أن نرمى بهذا الوصف" الغريب"، فالمنطقيّ لدينا غريب عند من لا يسايروننا منطقنا في التّفكير، ولا نظرتنا إلى الأشياء و الأمور. لكلّ منّا زاوية يرى عبرها الكون، الأحداث، ثم يصدر عليها ما شاء من الأحكام، ويلصق بها ما تبادر بين يديه من مواصفات.

وكان ما يربطنا أنا وحبيبتي لا يلتفت إلى الكون، و لا إلى الناس والأحداث، كلّ ما كان يهمّه، هو مطاوعتي في تحقيق رغبة معطاءة، كانت قد أهدتني بسمات وسلبت منّي عبرات.

لم يصدر واسطتي هذه أيّ حكم على أحد، فهو لا يهتمّ بأمور الغير، و لا يلتفت إلى صيف أو شتاء أو غيم أو رياح، كل ما كان يهمّه هو اتمام جسور التّواصل بيني وبين فرحتي وجزء من وجداني.

هذا القلم، كم ربط بيني و بين الكتابة، و لن آتي على ذكر الورق، لأنّه تحصيل حاصل، ولن ألتفت أو ألفت نظر الغير "الغريب" إلى ما هو تحصيل حاصل، مثلما يركّزون هم على كلّ مألوف تعوّدنا عليه، فلا يزيد لفت النّظر إليه من جمال للنّص، و لا بهرجة في المعنى، بالرّغم من أن أكثرنا يميل إلى  البهرجة لأنّنا مبالغون.

 مبالغون في الحب، مبالغون في الكره، مبالغون في الحزن، مبالغون في الفرح،  مبالغون في المرح، وفي تصوّر الأحلام و توقّع الكوارث أيضا.

و ما كنت لأتوقّع أبدا و أنا تحت تلك الشّجرة الكبيرة، في حديقة " الحامة" الجميلة أن أعود يوما إلى هنا.

هنا، حيث كان هناك تحت " الشّجرة الكبيرة" يبدو بعيدا جدا، حيث بالغت في ذرف الدّموع، عندما كنت أسرد على حبيبتي لوعة الاشتياق لعناق غصن زيتون بنكهتها. كنت أسرد عليها و كانت تتحمّلني، وتحاول واسطتي إرضائي كعادتها بتحقيق حلمي الطفوليّ في معانقة المسك الأذفر، في مناجاة السّماء بلغتي التي يحفظها الهواء، و تعزف ألحانها طيور الحرّية.

أنا فلسطينيّ، غدرت بميثاق الوفاء حينما أجبرت على الترحال منها. أرغموني هم، من لا يصاحبون معاني الأحلام الجميلة في عيون الزهور، من لا يعترفون برغبتنا في مناجاة السّماء بلهجة فلسطينية سامية، أرغمونا على الرّحيل، لتتوالد حروف وغنّات ورنّات على ألسنتنا، نناجي بها سماء غير سمائنا، و تحتملها ذرّات غير هوائنا.

في ذلك اليوم بكيت بحرقة، عندما هدموا غرفتي الجميلة، وفي الواقع ليست غرفتي هي من بكيت كما بكى أهلي جدران منزلنا العتيق، ولكنّني بكيت لأنّ التّربة المتساقطة من الجدران، لطّخت ثياب دبدوبي الحبيب وكان ينام في سريري، بل كنت أعتبره مثل أخي الصغير، فأمّي لم تنجب غيري بعدما غيّبوا أبي في معتقلاتهم المظلمة.

بكت أمّي بحرقة، وشاركتها جدّتي النّحيب، وبصراحة، لم أفهم لم يبكون البيت، فكلّ ما كان يهمني في ذلك الوقت، هو نجاة دبدوبي الصغير. سارعت إليه لأستنقذه من الرّكام، لكنّ أمّي وجدّتي تشبّثتا بثيابي، فكانتا تبدوان لي في تلك اللّحظة أشدّ بأسا من سجّاني أبي، عندما أخذوه من فراشه ودثّروه بضربات موجعة من حديدهم القاسي، لكنّ أبي لم يتوجّع، فظننته نائما، ولا يحسّ النّائم عادة بأيّ شيء كما كانت تحدّثني أمّي، فالنّائم يرفع عنه القلم هو والصّغير و المجنون، وأبي قد رفع عنه قلم الألم عندما ضربوه بقوّة، و بقسوة ذلك الحديد الصّلب.

كانوا يحملون حقدا في عيونهم، وكلاما لم أفهم معناه إلا بعد مضيّ سنين.

كانوا يعتبرون أنّنا لسنا من البشر، إلى درجة أن تساءل أحدهم يوما بقوله: " ما الفرق بين الفلسطينيّين والحمير"؟

فردّت عمّتي بكلّ عزم:

 ــــــ " الجدار الفاصل".

 ففصلوا روحها عن جسدها في الحين، وقالت لي جدّتي يومها إنّ عمّتك قد رحلت إلى جنّات النّعيم، فكففت عن البكاء، وتمنّيت أن ألحق بها لأستمتع في جنّات النّعيم، لأنّ فيها الكثير من اللّعب التي تمنّيت أن أقتنيها، ولم أحظ بها لسبب كنت أجهله، وما تزال تلك الأمنية محفورة في طريقي إلى اليوم، حين انتهجت سبيل المقاومة لأثأر لها و للكلام الذي حملته عيونهم في تلك الليلة، ولأبي الذي غيّبوه في سجونهم، و لدبّي الصّغير " أخي الحبيب" الذي لطّخوه بالأتربة المتساقطة من جدران بيتنا المهدوم.

حُملنا في اللّاجئين إلى المخيمات، و كان فراق الدّيار وهواء يتنفّسه أبي صاعقة على المرأتين، و أتى صديق أبي من الجزائر ليضاعف من مأساتهما حين اصطحبنا إلى حيث هو، و كم كوتني دموع أمّي يومها وأنا أراها تودّع أرض فلسطين، ومعها تودّع أبي المغيّب في السّجون.

 أما أنا فقد رفعت رأسي لأقول للسّماء، للغيم، للمطر و الشجر:

ــــــ غدا سأعود، إنّما هي رحلة ترفع فيها الأقلام عن العزم الحقيقيّ وتعيش العزّة سكرات الموت المؤقّت، ويقع العزم والجرأة في الحق فريسة غيبوبة الزّمن.

هو الجنين الآتي، ذلك العزم، يتربّى في رحم الوقت، يتغذّى على أنّات الأسرى والمعذّبين، يقتات من فتات أخبار المصابين، يتراكم معفّرا وجه الجبناء المحيطين بأرضنا في ألسنة نار من أحرار شعوبهم، ويغمس وجه العفن المتراكم فوق دفّات نعالهم، في صيحات غير عربيّة تناشد صوت الحقيقة العذب، ليرسل أمواجه إلى الأرض المقدّسة، فتصبح السّماء والأرض و العرض والتّاريخ، صيحة يخمد بها جبروت المعتدين، فتأتي الصّرخات المتتاليات لأجل أرض تتطهّر، من ظلام، من ذئاب، من غياب للصّحاب، من هجوع  للخرير في مياه الحياة.

كنّا نسخر من حمقهم في تجاسرهم علينا ولسان حالنا يقول:

 

 

 فالأحمق جوابه السّكوت

وسكوتنا اليوم

غضب مكبوت

عمّا قليل ينحر صمته

وينفجر

عمّا قليل يرجع السّاق

 الذي بتر

وينهض الطّفل

 الذي قبر

سينهض الرّكام

والأشلاء بينه

ويثمر الدّم المراق

 جهنّم

وينطق الرّضيع المغتال

صارخا:

"هذا زرعكم

فلتقطفوا الثّمر".

 

صحنا وصاحوا، أملنا و أملوا، جلسنا على طاولات ولائم العشاء الأخير، لنتّجه صوب الغد المرتقب، و جلسوا هم حول طاولات سلام لا يعترف إلا بالدّمار، وفرغنا نحن من عشائنا لنشرع في معانقة التراب، و لم يفرغوا هم من كلامهم الغريب الذي لم ينقله رابطتي بيني و بين حبيبتي، لأنه لا يعقل إلا الصّواب.

تمرّغنا في الوحل وكنّا فرحى، ننشد أهازيج الحياة:

 

والفلسطينيّ مهما تعالوا

مهما أسالوا

 من دم أكرم

والفلسطينيّ يبذر حبّه

بأرض المحبّة

يغرس ثورة

بصدر الطّفولة

وبالعين نصر

غدا يتكلّم

 

 

بني صهيون صبرا

لا تتناسوا                 

دما مستباحا

لا تتناجوا

بنصر لاحا

فدمي إعصار بأرض العروبة

بأرض السّلام

وطفلي يجرّم

ودمي بركان

يصمت حينا

ينصت حينا

لبكي الحمائم

ويثبت حينا

لوثبة حق

فيقطع أوصال غدر، وظلم

وسفك

ويحرق كالشّمس ليلا

ظلّ سنينا

بوجه الفلسطينيّ

يتجهّم.

 

انغمست أقدامنا في التّراب، وتفرّعت في ثيابنا ذرّات الغبار، وكان الجسد و الرّوح يتقاسمان لحظات مشرقة، هي العودة التي انتظرتها المرأة الكبرى و قد غادرتنا في تلك الدّيار الحبيبة، لم نعتبرها يوما غريبة. الجزائر احتضنت فلسطين، حضنت الشّعب و الحلم و التّفكير. وبكت أمّي إلى آخر النّهار يوم ووريت جدّتي التّراب في مقبرة اللّاجئين.

إلى المساء فقط ذرفت أمّي دموعها، ثم توقّفت موافقة لوصيّة جدّتي:

ـــــ " في آخر النّهار ستكونان على مشارف فلسطين، وحينها لن تحتاجي يا بنيّتي أنتِ و لا ابنكِ إلى ذرف الدّموع على فراقي، فقد عدنا جميعنا إلى الأرض الحبيبة".

و من هناك عانقتُها بعدما لبستُ ثيابا خضراء مخضّبة بالسّواد، و نزلت إلى قبر أنا و صحابي، فصرنا نحفر ونحفر، تُعانقنا حروفنا السّهمية، كانت حقا سهاما ترى الغد المشرق في نصر أكيد، وكانت الأنّات، والدّماء، وتعداد الضحايا، تغذّي عزمنا نحو الآتي، فصارت الأشلاء حبلا يربط تسديداتنا نحو الهدف، والجميع يردّد أغنية الشّهيد:

 

 

ـــ 1 ـــ

قتلانا في الجنّة

قتلاهم في النّار

معا دوما نمضي

رغم هذا الدّمار

رغم هذا الحصار

ففي نبض غزّة

في نبضها إعصار

ودماؤنا جُنّة

وقلوبهم تنهار

من صرخة طفلي

فحجري بتّار

رغم هذا الدّمار

رغم هذا الحصار

في قلبيَ إعصار

لن تكبحوا نارا

من بركان الثّوار

لن تستكين حجارتي

لن ترضخ كرامتي

لن تهدموا فخامتي

والموت لي جرّار.

جميلة ميهوبي

 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-