جزء من قصة " حبر وذنب"

 

من مجموعتي القصصية " أرض وراية"

 

حبر و ذنب

تتنامى بكَ السّهرات، وترعاكَ النّجوم النّازحات صوب الجنوب، تتابع مساراتها الخفيّة، تشبّهها بمساراتكَ منذ وعيت معنى الوجود، ولخّصه لكَ عمّكَ المعطوب (معطوب القدم بسبب لغم في الغابة)، في هذه الكلمات.

-        لا معنى حقيقي للوجود إلا بالحريّة.

-        الحريّة؟

-        نعم، الحريّة يا رفيق، أبهى وأجمل ما في الوجود.

-        الوجود؟

-        حياتك يا رفيق، حياة الناس من حولك، وحياة أهلك وأقاربك وجيرانك.

-        وحياة والديّ؟

ارتطمت كلماتكَ بأذنيه، لم تستسغها، فحوّلت مسارها إلى العيون، فأغمضها بسرعة، كما يفعل البرق الخاطف عندما يصدم النّظرات، وانفجرت منهما الينابيع، فلم يوقفها شيء.

هذه مريم تأتيه بالعشاء، فيأبى أن يلتقم منه شيئا، تأتيه ببعض الدّواء، مغلّى أعشاب ممزوج ببعض العسل عسى يشفى من زكامه المزمن، لكنّه لا يلتفت إلى شيء من ذلك كله.

-        ما باله يا رفيق؟

-        لا أدري يا زوجة عمّي.

-        ما بالك يا رجل؟

ولا يجيب وكأنّه لا يسمع، ويغرق في بحره ويهفو إلى استنطاق عوالم الغموض، بل الأحداث العاتيات.

الصّبح أضاء من ههنا، يوم ركبنا آخر السّفن الرّاسيات، و التحمنا بالماء، صرنا جزء منه مثلما ظلّ جزء من قلوبنا. نقترب من سواحل اسبانيا، و كانت الجزائر سيّدة البحر الأبيض المتوسط، وظلّت مهابة الجانب، يخشاها الصّيادون وأرباب السّفن الكبيرة والصّغيرة في كلّ مكان.

أنت جزائريّ إذن أنت عزيز، و سفينة جزائريّة ستمرّ بين السّفن الأخرى بكل احترام، بل ويحسب لقبطانها  وطاقمها ألف حساب، أيام عزيزة تلك و أيام تفوح عزّة.

و عدنا نحمل صيدا وفيرا، نوزّعه على البائعين، و يحتفظ كلّ منّا بشيء لأسرته.

و أطفالنا يحبّون الأسماك، و يحتفظون ببعضها كأصدقاء. و جاء اليوم الذي سلبت فيه سفننا وأحلامنا  وأسماك صغارنا، بعدما تمّ طردنا إلى الأماكن المعزولة، لنتذكّر أيامنا الخوالي بجوار البحر فقط مع إشراقة الشّموس.

هناك كانت صباحاتنا مليئة بالأحلام، نلقي شباك الصّيد و شباك الآمال، ونرجع بنواجذ ضاحكات ملء ساحات القلوب، هناك كان للصّبح معنى و لألق الفجر حكايات، و صديقي الطّبيب كان يرافقني على سفينتي ليلقي نظرة على الصّحاب، و بسنّارته كان يصيد بعض سمكاتي من السّلال على السّفينة، وكانت تلك مزحة جميلة تضفي علينا فرح الأطفال، و ترجع بنا سنوات إلى الوراء، لنعايش أمنيات الطّفولة وبساطتها، و دهشة الصّغار بما ينجزه الكبار.

و ها نحن صرنا كبارا، أصبحنا نحيا على اجترار أمنيات البراءة، بعدما عكّرت أمزجة هوائنا النّاصع سحائب داكنات، مدافع و مجازر و أنين، و انسحاب نحو صمت الآمنين، فالكلام صار في عرفهم حراما، وصار رفع البصر إليهم ذنبا جزاؤه الإعدام.

انسحبنا، بل طردنا نحو البراري و الجبال، نبكي ضحايانا، و سفننا و منازلنا العتيقة، و نبحث عن أنيس يسلّينا عن مصابنا العظيم. ووجدنا الأنيس، كهوفنا صارت أنيسا و مغاراتنا أصبحت بلسما للقلوب، لأنّها كانت تزوّدنا بأخبار الجسارة من أسود الشّرى، فهي قصور تحوي فرسان الخفاء.

من مكانه قرب كانونه العتيق، تابع خطوات في طريق الذّكريات و هو يستعيد ذات النّبرات، بأنين كان لوعة في جبين الزّمن المرّ.

مشتاق ليحيى، و لقهقهاته التي كانت تملأ المكان، و هو يلاعب سمكاته العجيبة، فقد كان يلفت انتباهه كلّ ما هو عجيب، و كان يختارها بعناية عندما يرافق عمّه إلى المياه الزّرقاء، ثم يقتني أكلها ويطعمها بكلّ حب، بل ويوليها كلّ اهتمام.

و جاء الغازي فسرق منه أحلامه، وغدر بسمكاته، و التهم كلّ فرح و حبور. و أراد الثّائر الصّغير أن ينتقم، لكنّ سلطة الأبوّة كانت أقوى، فحبست حماسته المتأجّجة بنيران ظلم و ظلام.

ـــــ أريد أن يعلموا أنّنا رجالا، وأنّنا لسنا خائفين.

ــــــ نحن حقا لسنا خائفين، و لكن علينا الانتظار.

ـــــ الانتظار؟ إلى متى؟ أنا أريد التّحرّك حالا.

ـــــ  ما يزال عودك طريّا يا بنيّ، أريد أن يشتدّ أكثر لتنطلق بينهم مثل القدر، فتكون سيفا بتّارا يقطع أوصال الظّلام.

و مرّت أيام، وعاد متحمّسا تلهبه أحداث داميات.

ـــــ ألم يحن وقتي بعد؟

ــــــ لكلّ أجل كتاب. تعلّم و تعلّم، ثم ستظهر أمامك معالم الطّريق.

و تعلّم قليلا، و فار الدّم في عروقه، فالتحق بالأعالي، وصار من سكّان القصور.

و جاءكَ ليلا رجالهم، وأوسعوك ضربا لأنّه اختار الصّواب وأبان لهم غلطهم، فالأرض له ولأجداده، وهم الدّخلاء. كانوا يصبّون غضبهم على الأبرياء ليثبتوا لضمائرهم أو ما تبقىّ منها أنّهم على حق، ويحاولون اسكات عقولهم الرّافضة للباطل ببعض إحسان. لكنّ الشّباب الواعي كان يتمرّد على احسانهم/ نفاقهم،  ويلتحق بالصّفوف الشّريفة هناك.

جميلة ميهوبي.

 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-