جزء من قصة " بثور الغياب"

 

جزء من قصة " بثور الغياب"

من مجموعتي القصصية " أرض وراية"


بثور الغياب

كانت صفّارات الإنذار تدوّي، والأرض مفروشة بدم و أشلاء، و كان الصّراخ يملأ المكان، و النّاس يتماوجون فارّين في كل الاتّجاهات، ودخان كثيف يضفي على المشهد هولا أكبر.

لكنّ الغريب أنّ رجلا كان هناك، لم تحرّكه الأحداث، و لم يهتزّ لدخان ولا لعويل، كأنّما هو تمثال خال من المشاعر، أو حجر نفخت به بعض حياة، حيث ظلّ يقبع في زاوية قريبة من مكان الانفجار، يرقب الأحداث باسما، و لا تلوّن وجهه أيّة علامات، ثم انسحب سريعا في هدوء نحو بيت يقع في زقاق ضيّق، و طرق الباب طرقا خفيفا، فاستقبله يحي بملامح قلقة، تكاد تسمع دقات قلبه من بعيد.

ـــــ أتعجّب من هدوئك يا عمّي، لو كنت مكانك لسقطت من طولي خوفا وقلقا.

ـــــ أنت تعلم جيدا أنّك لن تستطيع أن تكون مكاني. مثل هذه العمليّات تحتاج لقلوب صلبة، و نفوس هادئة، و اتّزان.

و الطّلقات كانت كثيرة و مدوّية قطعت حديثهم، و الطّرقات على الباب كانت قويّة أفزعت يحي، فنظر إلى عمّه مذعورا.

ـــــ ربما قد رأوك، ربما تبعوك، هاهم جاؤوا ليقبضوا عليك. هيا اختبئ، بسرعة، سيقبضون عليك.

و كعادته ردّ هادئا:

ـــــ لن يقبض عليّ أحد،  سأذهب إلى الصّالون لأرتاح.

و فتح الشّاب الباب،  ممتقع اللّون، تزداد دقّات قلبه سرعة كأنّما كانت تريد أن تعزف ألحان الخوف و الفزع و تبلّغها لكل الآذان، و كانت عيونه وجلة ترقب الباب و هي تنتظر المفاجأة، مفاجأة البوليس و الجنود وأصحاب القلوب الصّخريّة. كانوا لن يرحموه بالرّغم من سمعته الطّيبة بينهم، بالرّغم من أنّ أباه يشتغل في جيوشهم، بالرّغم من أنّه ممرّض بمستشفياتهم و تربّى على يدهم. يكفي أن يأوي أحد المخلصين كي يحكموا عليه بالخيانة، بالانضمام للصفّ الآخر، للصفّ المعادي، لأصحاب الأرض و الحق الذين لن يكونوا في عرفهم إلا ظالمين.

تمثّل يحي المقصلة تنزل على رقبته كي تفصل جسده عن روحه، ثم قال بصوت خافت: ــــــ و لتكن المقصلة، وليكن أيّ شيئ، نحن أصحاب الأرض و هم الغاصبون.

لكنّ صوت سوزي جعله يطمئنّ، عندما كلّمته و هي تدخل من الباب، مغطّاة بنبرات الحسرات، تغلّف وجهها دموع كسيرات.

ـــــ لقد فجّروا المقهى الرئيسيّ يا يحي. هناك الكثير من الضّحايا. والديّ أيضا كانا هناك، لا أحد يصدّق ما حدث.

 و انخرطت في نحيب طويل.

 نزل الخبر كالصّاعقة على آذان العمّ، هو لم يكن يريد أن يؤذي أحدا من الأشخاص المحايدين، كان فقط يريد أن يدفع الجناة ثمن تعجرفهم وتكبّرهم وإرهاقهم للضّعفاء كما أمرته الجبهة، لقد كان عليه أن يصطاد سجّاني سركاجي، ممّن كانوا يسومون السّجناء سوء العذاب، خاصة أولئك المحكوم عليهم بالإعدام.

ــــــ والدا سوزي؟! يا للفتاة المسكينة.

و ضرب بكلتا يديه على رأسه مصدوما، ثم واصل حديثه الداخلي.

ـــــ الطّبيبان، ليتهما كانا في مكان آخر، كيف لم ألاحظ وجودهما؟! يا لسوء الحظّ.

و اتّصلوا من المستشفى ببيت يحي يطلبون حضوره في الحال، فهو ممرّض بمصلحة الاستعجالات، فخرجت سوزي برفقته تلوّنها ملامح الضّياع والحسرات.

و في حركة عفويّة منه، قام العمّ من مكانه، و توجّه نحو الباب، ليكلّم الفتاة، كان يريد أن يعتذر منها، فقد كان خطأه، دموعها الحاضرة هي خطؤه، وانقباض صدرها هو مسؤول عنه، كان يريد أن يقول لها إنّه لم يفعل ذلك عن قصد، والداها أبدا لم يكونا مقصودين، لقد كان خطأ التّوقيت والمكان.

و عاد به تردّده نحو عقله، ليلجم جماح مشاعره الفيّاضة و الإحساس بالذنب، حين أدرك أنّ تلك خطوة مهلكة كان سيقدم عليها في لحظة ضعف، و كم  يتغلّب علينا ضعفنا، فنتجرّع مرارة قرارات خاطئة في لحظات ضعف بشريّ غير معهود، و قد نقدّم وعودا جريئة لا نقوى على تنفيذها أبدا، فنصير مسرحا للتّهم و للتّأويل.

 هو يعلم يقينا أنّ ذلك لم يكن خطأه، بل كان خطأ الغاصبين للأرض والعرض، كان خطأ الغزاة الحاقدين، و كان ذنب من قصدوا ديارا ليست لهم، ديارا سلبت عنوة من أهلها، فاستقرّوا فيها هم و صاروا أسيادا يستعبدون الشّرفاء في بيوتهم، و يهينون الكرماء في أوطانهم، و لم يعلموا بأنّهم كانوا ينفخون في عزائمهم رياح التّغيير، و الثّورة على الظّلم، لاسترجاع المسلوب وطرد المعتدين.

 لقد اقتنع أخيرا أنّ ذلك أبدا لم يكن خطأه أو خطأ من أمروه بتنفيذ العمليّة الفدائيّة هناك، بل كان خطأ سوزي و والديها و كلّ من سوّلت له نفسه أن يدوس الأرض العفراء بأقدامه السّوداء، ما كان للشرفاء أن يعتدوا على النّاس في ديارهم و على أرضهم، بل هم من جعلوا أنفسهم في مضمار الرّمي، بعدما جاءوا إلى أرض غريبة عنهم.

و رنّ الهاتف، و تكلّم العمّ، و كان على الخط أحد القادة:

ــــــ الزم مكانك، فالطّرق غير آمنة، و قد يقبضون عليك.

لم يقلق و لم يتوتّر، بل استلقى صافي الذهن إلا من تأنيب الضّمير.

ـــــ ما ذنب الأبرياء في هذا؟ لو استطعت، لاصطدت الضّباط الشّرسين قرب منازلهم، لكنّ المراقبة شديدة عليهم هناك. لابد من الضّحايا إذن، كما نحن ضحايا، و أطفالنا ضحايا و شبابنا و أحلامنا، كلّ عليه أن يدفع ثمن ما نحن فيه، لم يكن أبدا خطؤنا.

و ارتاح يحي بعدما شاهد ابتسامة سوزي ترتسم على شفتيها من جديد، فعلم أنّ الأمور بخير و لا مكان للوجل.

سوزي زميلته في العمل، لم ترض يوما بظلم أبناء جلدتها لأصحاب المكان، و كانت تحث والديها على الرّحيل، على العودة إلى موطنهم، للعيش بأمان، لكنّهما فضّلا البقاء، كي يعالجا الفقراء و المقهورين.

نعم هؤلاء المقهورين، المغصوبة حقوقهم و آمالهم..... أغنياء كانوا وصاروا فقراء، كرماء كانوا و صاروا أذلّاء، أسياد كانوا و صاروا عبيدا، بسبب المعتدين وحدهم، الغاصبين، انغمسوا في وحل الظّلام و كانوا بالنّور ينعمون.

ـــــ المكان غير آمن يا أبي، لنرحل.

ـــــ و لمن نترك صبية و شبابا و نساء يتأوّهون؟ الأوبئة كثيرة و منتشرة وتعداد الضّحايا يزداد يوما بعد يوم.

ــــ و ما ذنبنا نحن؟ أريد أن نغادر، لا أشعر بالأمان هنا. الناس يكرهوننا و قد ينتقمون منّا يوما ما.

ــــــ الناس لن ينتقموا منّا لأنّنا نحبّهم، بل و نقدّم لهم يد المساعدة، و ذنبنا يا بنيتي، هو قدر ألقى بنا في هذه الأرض. اصبري يا صغيرتي، ستتعودين على الحياة هنا، و ستجدين رفقاء طيبين.

جميلة ميهوبي.



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-